تولّدت الرغبة لديّ في خَوض غمار الكتابة في واحدةٍ من المسائل القانونية التي لم يُثر يوماً نقاشاً وجدلاً قانونياً حولها كما أُثير الجدل حول "محكمة أمن الدولة"، خاصة بين رجال القانون والقوى السياسية والحزبية، باعتبارها محكمة خاصة، لجهة الظروف التي ولدت فيها هذه المحكمة ولجهة دستوريتها وشرعيتها وآلية تشكيلها واختصاصاتها ومدى توافق تشكيلها مع الأحوال الخاصة التي تقتضيها المصلحة العامة، وضمانات المحاكمة العادلة في تشكيلها وفي إجراءات المحاكمة أمامها، وجاءت هذه الرغبة مدفوعةً بالحاجة الماسة التي لمستها لدى العديد من المختصين في الحقل القانوني لجهة فهم وإدراك واستيعاب النصوص القانونية المتعلقة بعمل هذه المحكمة من جهة، ومدى الحاجة إلى الدراية بالاختصاصات المنعقدة لها من جهة أخرى، فهذا الجدل الذي امتد سنوات طوال حول هذه المسالة، وَلّد داخلي شعوراً بِعظم المسؤولية وزادني اندفاعاً وحماساً لخوض غمار هذه المسؤولية من باب اختصاصي الوظيفي القضائي أولاً ومن باب إظهار النصوص القانونية المتعلقة بعمل هذه المحكمة بالشكل الذي ينبغي أن تظهر فيه ثانياً ومن حيث فن تطبيق هذه النصوص على الواقعة التي يخلص إليها قاضي الموضوع بشكل يكون متوافقاً مع قصد المشرع وسلامة التطبيق القانوني ثالثاً، مؤمناً في ذلك كله بأن الالتزام هو جوهر المسؤولية، الذي يقود الفرد إلى الأداء المنضبط الذي يعي فيه أهمية البحث الجاد الواعي للنص القانوني تأصيلاً وتجذيراً وتحليلاً. لم تكن هذه المسؤولية سهلة أو ميسرة لخوضها في ظل شُح المراجع الفقهية الأردنية التي تناولت هذا الموضوع أو حاولت سبر أغواره، وقصور المراجع الأُخرى المتعلقة بالتشريعات المقارنة عن الإلمام بالجانب العملي لعمل هذه المحكمة، فآثرنا في هذا المؤلف ـ والذي سيصدر ضمن موسوعة قانونية متخصصة في الاختصاصات الجزائية لمحكمة أمن الدولة ـ أن نحمل شعلة البداية، فنُسلّط الضوء قدر ما استطعنا لبحث الأحكام العامة لقانون محكمة أمن الدولة تحليلاً للنصوص الواردة به، مستعيناً في ذلك كله بالتطبيق العملي وبما أصدرته وأرسته محكمة أمن الدولة من قراراتٍ وأحكامٍ متعلقة بنصوص قانونها ونصوص القوانين المرتبطة به وسيراً على هدي ما أصدرته محكمة التمييز الأردنية بصفتها الجزائية من قرارات واجتهادات. كما سنتطرق في الجزء الثاني من هذه الموسوعة إلى شرح قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 23 لسنة 2016 والتعديلات الواردة عليه وسنقوم بهذا الشرح ـ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ـ ببيان اختصاص محكمة أمن الدولة استناداً إلى نصوص هذا القانون باعتبار أن الاختصاص منعقدٌ لهذه المحكمة على سبيل الحصر في الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، وسيرافق ذلك عرضاً للتطور التاريخي لقوانين المخدرات والمؤثرات العقلية في المملكة الأردنية الهاشمية والنشأة الأولى لها، ثم نبين الأحكام العامة الواردة في هذا القانون وأنواع الجرائم الواردة فيه مع شرح تفصيلي تأصيلي للنصوص والتطبيق العملي لها من خلال دراسة أركان وعناصر كل جريمة على حدة، مستندين في ذلك كله إلى جانب عملي تطبيقي مستمد من المبادئ القانونية التي استقر عليها اجتهاد محكمة التمييز بصفتها الجزائية عند تصديها للنظر بالطعون التي ترفع أمامها في الأحكام الصادرة عن محكمة أمن الدولة ونضيف كلما شعرنا بفائدة للقارئ الكريم ـ رأينا الخاص ـ من خلال تجربتنا العملية فيما يعرض من مسائل تحتاج إلى توضيح وتعليق. وأخيراً وفي الجزء الثالث من هذه الموسوعة سنتطرق لباقي الاختصاصات المنعقدة لمحكمة أمن الدولة فيما يتعلق بجرائم الخيانة المنصوص عليها في المواد من (110) إلى (117) من قانون العقوبات رقم (16) لسنة 1960 وتعديلاته وجرائم التجسس الواقعة خلافاً لأحكام المواد (14) و(15) و(16) من قانون حماية أسرار ووثائق الدولة رقم (50) لسنة 1971 وجرائم الإرهاب المنصوص عليها في المواد من (147) إلى (149) من قانون العقوبات رقم (16) لسنة 1960 وتعديلاته، وجرائم الإرهاب الواقعة خلافاً لأحكام قانون منع الإرهاب رقم (55) لسنة 2006 وقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم (20) لسنة 2021، وجرائم تزييف العملة وتشمل جرائم تزوير البنكنوت والجرائم المتصلة بالمسكوكات والمنصوص عليها في المواد من (239) إلى (252) من قانون العقوبات رقم (16) لسنة 1960 وتعديلاته، سنعمل على نشرها إذا كان في العمر متسعاً وأنعم الله علينا بالمزيد. لقد كان لقرارات محكمة أمن الدولة على مر سنوات خلت والمبادىء القانونية التي أرستها محكمة التمييز توافقاً أو اختلافاً مع قرارات محكمة أمن الدولة من ناحية، والاجتهادات الشخصية المبنية على تحليل النص وتأصيله من ناحية أخرى، والحماس الذي وجدناه ولمسناه من قبل مجموعة من السادة القضاة العسكريين "العاملين والمتقاعدين" والقضاة المدنيين والزملاء الأفاضل من المحامين والأكاديمين في جامعاتنا الأردنية الحكومية والخاصة وطلاب كليات الحقوق في الحاجة لإثراء مكتبتنا القانونية الجنائية الأردنية بما يمكن أن يكون باكورة إنتاجٍ قضائي أول لخوض هذا الغمار، كان لهذا كله الأثر المباشر في خَطّ الطريق الذي استرشدنا فيه للسير في هذه الموسوعة بأجزائها الثلاثة ولا ندعي الكمال، لأن الكمال من صفات المولى من رفع السماء، وإنما نترك للتاريخ هذا الجهد بصمة، آملين أن يكون يوماً ما عوناً للباحث القانوني في هذا المجال. تكمن قيمة هذه الموسوعة ـ بالدرجة الأولى ـ في أنها علمتني قبل أن تعلم غيري، وأرشدتني إلى أن استنباط قصد المشرع من النص القانوني يحتاج إلى تأملٍ في النص ذاته والإلمام بكل جوانبه، خروجاً عن المألوف، وعلمتني أيضاً أن المنصب لا يعطي امتيازاً أو يمنح قوة بقدر ما يفرض مسؤولية ترتب عليّ أن أكون أميناً ومخلصاً وموضوعياً في إتمامها بالشكل الذي يليق بمنصة القضاء وهيبته، وتقديمها للغير بكل تواضع متى كان ذلك متاحاً وممكناً، ومتجرداً من الأهواء جاداً في إعمال العقل والفكر ومُوظِفاً قدراتنا للوصول إلى الحق والحقيقة دائماً.